فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم يقول الحق سبحانه: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}.
تأملوا هذه الآية جيدًا وارْعَوْها انتباهكم، فلكل أمة أجلٌ تنتهي عنده تمامًا، مثل أجَل الأفراد الذي لا يتقدّم ولا يتأخّر، فقرْن بعد قَرْن، وأمة بعد أمة، تمرُّ بأطوار شتى كأطوار حياة الإنسان، ثم تنتهي إلى زوال ويعقبها غيرها.
فلكل أمة رسول يحمل إليها دعوة الله ومنهجه ويجاهد في سبيل نشرها إلى أنْ ينصره الله وتنتشر دعوته ويتمسَّك الناس بها، ثم تصيبهم غفلة وفتور عن منهج الله، فينصرفون عنه ويختلفون ويتفرقون، فيكون ذلك إيذانًا بزوالها ثم يخلفها غيرها؟
كذلك في مسألة الحضارات التي تندثر ليحلَّ محلَّها حضارات أخرى أقوى، نسمع عن حضارة قديمة في مصر وفي الصين وفي اليمن، نسمع عن الحضارة الرومانية والفينيقية.. إلخ. حضارات تتوالى وتأخذ حظها من الرُّقيِّ والرفاهية، وتُورِث أصحابها رخاوة وطراوة، وتبدلهم بالجَلَد والقوة لِينًا وضَعْفًا، فيغفلوا عن أسباب رُقيِّهم وتقدُّمهم، فتنهدم حضارتهم ويحلُّ محلَّها أقوى منها وأصلب.
وهذا مثال ونموذج في حضارة بلغت أوج عظمتها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 6- 10].
وإلى الآن، ونحن نرى آثار الحضارة الفرعونية، وكيف أنها تجذب انتباه أصحاب الحضارات الحديثة وتنال إعجابهم، فيأتون إليها من كل أنحاء العالم، مع أن حضارة عاد كانت أعظم منها؛ لأن الله تعالى قال في حقها: {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 8].
ومع ذلك لا نرى لهم أثرًا يدل على عِظَم حضارتهم، ولم يكُنْ لهذه الحضارة مناعة لتحمي نفسها، أو تحتفظ لها بشيء، فانهارت وبادتْ ولم يَبْقَ منها حتى أثر.
كذلك أتباع الرسل يمرُّون بمثل هذه الدورة، فبعد قوة الإيمان تصيبهم الغفلة ويتسرب إليهم الضعف وسوء الحال، إلى أن يرسل الحق سبحانه رسولًا جديدًا.
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [المؤمنون: 43].
المعنى في الجملة الأولى واضح، فأيُّ أمة لا يمكن أنْ تسبق أجلها الذي حدَّده الله لها، ولا يمكنْ أن تنتهي أو تقوَّص قبل أنْ يحلَّ هذا الأجل.
لكن ما المراد بقوله سبحانه: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [المؤمنون: 43] كيف يتأتَّى ذلك؟ فهمنا: لا تسبق أجلها يعني أجلها أن تقوض بعد عشرين سنة، فلا يمكن أن تُقوَّض قبل خمس عشرة، أما كونها تستأخر بعد أن بلغتْ العشرين إلى عشرة، فكيف يتم ذلك؟
نقول: لا تستأخر يعني: من حيث الحكم هي لا تسبق الأجل وهي محكوم عليها بأنها لا تستأخر؛ لأن الاستئخار بعد بلوغ الأجل مستحيل، كما لو قلنا: شخص بلغ سِنَّ العشرين لا يقدر أن يموت في العاشرة. فالمعنى: الأصل فيه أنه لا يستأخر.
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا}.
{تَتْرَا} [المؤمنون: 44] يعني: متوالين يتبع بعضهم بعضاَ؛ لذلك ظنَّها البعض فعلًا وهي ليست بفعل، بدليل أنها جاءت في قراءة أخرى تترًا بالتنوين والفعل لا يُنوَّن، إذن: هي اسم، والألف فيها للتأنيث مثل حُبْلى.
أضِفْ إلى ذلك أن التاء الأولى تأتي في اللغة بدلًا من الواو، كما جاء في الحديث الشريف من نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدْه تجاهك- أو وجاهك» يعني: مواجهك.
فإذا أُبدلَتْ التاء الأولى في تترًا واوًا تقول وترًا يعني: متتابعين فَرَْدًا، والوتر هو الفَرْد.
ثم يقول سبحانه: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] فهذه طبيعة ولازمة من لوازم المرسل إليهم، وما من رسول أُرسل إلى قوم إلا كذّبوه، ثم يلجأ إلى ربه: {قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 39].
ولو لم يُكذَّب الرسول ما كان هناك ضرورة لإرساله إليهم، وما جاء الرسول إلا بعد أن استشرى الباطل، وعَمَّ الطغيان، فطبيعي أنْ يُكذِّب من هؤلاء المنتفعين بالشر المستفيدين من الباطل والذين يدافعون عنه بكل قواهم، وكأن تكذيبهم للرسل دليل على صواب مجيء الرسل، وإلا لما كان هناك ضرورة لرسالات جديدة.
وقوله تعالى: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} [المؤمنون: 44] يعني: يمضي واحد ويأتي غيره من الرسل، أو نهلك المكذِّبين ثم يأتي بعدهم آخرون، فيكذبون فنهلكهم أيضًا.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [المؤمنون: 44] أحاديث: إما جَمْعًا لحديث كما نقول: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جمع: أحدوثة. وهي المقولة التي يتشدَّق بها الجميع، وتلوكُها كل الألسنة، ومن ذلك قول الإنسان إذا كثُر كلام الناس حوله: جعلوني حدوتة يعني على سبيل التوبيخ والتقريع لهم.
فقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [المؤمنون: 44] كأنه لم يبْقَ منهم أثر إلا أنْ نتكلم عنهم، ونذكرهم كتاريخ يُحْكَى، وفي موضع آخر قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19].
ثم يقول تعالى عنهم كما قال عن سابقيهم: {فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] يعني: بُعْدًا لهم عن رحمة الله، وبُعْدًا لهم عن نعيم الله الذي كان ينتظرهم، ولو أنهم آمنوا لنالوه. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)}.
ذكر هذه القصة عقيب قصة نوح، يظهر أن هؤلاء هم قوم هود والرسول هو هود عليه السلام وهو قول الأكثرين.
وقال أبو سليمان الدمشقي والطبري: هم ثمود، والرسول صالح عليه السلام هلكوا بالصيحة.
وفي آخر القصة {فأخذتهم الصيحة} ولم يأت أن قوم هود هلكوا بالصيحة وقصة قوم هود جاءت في الأعراف، وفي هود، وفي الشعراء بأثر قصة قوم نوح.
وقال تعالى: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} والأصل في أرسل أن يتعدى بإلى كإخوانه وجه، وأنفذ وبعث وهنا عُدِّي بفي، جعلت الأمة موضعًا للإرسال كما قال رؤبة:
أرسلت فيها مصعبًا ذا إقحام

وجاء بعث كذلك في قوله: {ويوم نبعث في كل أمة} {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا} و{إن} في {أن اعبدوا الله} يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية وجاء هنا {وقال الملأ} بالواو.
وفي الأعراف وسورة هود في قصه بغير واو قصد في الواو العطف على ما قاله، أي اجتمع قوله الذي هو حق، وقولهم الذي هو باطل كأنه إخبار بتباين الحالين والتي بغير واو قصد به الاستئناف وكأنه جواب لسؤال مقدر، أي فما كان قولهم له قال قالوا كيت وكيت {بلقاء الآخرة} أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها {وأترفناهم} أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم، واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين، وكان العطف مشعرًا بغلبة التكذيب والكفر، أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم، وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا نعمتنا بالإيمان وتصديق من أرسلته إليهم، وأن تكون جملة حالية أي وقد {أترفناهم} أي {كذبوا} في هذه الحال، ويؤول هذا المعنى إلى المعنى الأول أي {كذبوا} في حال الإحسان إليهم، وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإيمان والتصديق لرسلي.
وقوله: {يأكل مما تأكلون منه} تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم، وأن لا مزية له عليهم، والظاهر أن ما موصولة في قوله: {مما تشربون} وأن العائد محذوف تقديره {مما تشربون} منه لوجود شرائط الحذف، وهو اتحاد المتعلق والمتعلق كقوله: مررت بالذي مررت، وحسن هذا الحذف ورجحه كون {تشربون} فاصلة ولدلالة منه عليه في قوله: {مما تأكلون منه} وفي التحرير وزعم الفراء أن معنى قوله: {ويشرب مما تشربون} على حذف أي {مما تشربون} منه، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف ألبتة لأن ما إذا كانت مصدرًا لم تحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم تحتج إلى إضمار من انتهى.
يعني أنه يصير التقدير مما تشربونه، فيكون المحذوف ضميرًا متصلًا وشروط جواز الحذف فيه موجودة، وهذا تخريج على قاعدة البصريين إلاّ أنه يفوت فصاحة معادلة التركيب ألا ترى أنه قال: {مما تأكلون منه} فعداه بمن التبعيضية، فالمعادلة تقتضي أن يكون التقدير {مما تشربون} منه، فلو كان التركيب مما تأكلونه لكان تقدير تشربونه هو الراجح.
وقال الزمخشري: حذف الضمير والمعنى من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه انتهى.
فقوله حذف الضمير معناه مما تشربونه وفسره بقوله مشروبكم لأن الذي تشربونه هو مشروبكم.
وقال الزمخشري {إذًا} واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم، أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آبائكم انتهى.
وليس {إذًا} واقعًا في جزاء الشرط بل واقعًا بين {إنكم} والخبر و{إنكم} والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل إن الموطئة، ولو كانت {إنكم} والخبر جوابًا للشرط للزمت الفاء في {إنكم} بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزًا إلاّ عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ.
واختلف المعربون في تخريج {أنكم} الثانية، والمنقول عن سيبويه أن {أنكم} بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد، وخبر {إنكم} الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه تقديره {إنكم} تبعثون {إذا متم} وهذا الخبر المحذوف هو العامل في {أذلة} وذهب الفراء والجرمي والمبرد إلى أن {أنكم} الثانية كررت للتأكيد لما طال الكلام حسن التكرار، وعلى هذا يكون {مخرجون} خبر {أنكم} الأولى، والعامل في {إذا} هو هذا الخبر، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقبل إذ لم يذكر خبر أن الأولى.
وذهب الأخفش إلى أن {أنكم مخرجون} مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره: يحدث إخراجكم فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبرًا لأنكم، ويكون جواب {إذا} ذلك الفعل المحذوف، ويجوز أن يكون ذلك الفعل المحذوف هو خبر {إنكم} ويكون عاملًا في {إذا}.
وذكر الزمخشري قول المبرد بادئًا به فقال: ثنى {إنكم} للتوكيد، وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف و{مخرجون} خبر عن الأول وهذا قول المبرد.
قال الزمخشري: أو جعل {إنكم مخرجون} مبتدأ و{إذا متم} خبرًا على معنى إخراجكم إذا متم، ثم أخبر بالجملة عن {أنكم} انتهى. وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه.
قال: أو رفع {إنكم مخرجون} بفعل هو جزاء الشرط كأنه قيل {إذا متم} وقع إخراجكم. انتهى.
وهذا قول الأخفش إلا أنه حتم أن تكون الجملة الشرطية خبرًا عن {أنكم} ونحن جوزنا في قول الأخفش هذا الوجه، وأن يكون خبر {إنكم} ذلك الفعل المحذوف وهو العامل في {إذا} وفي قراءة عبد الله {أيعدكم} {إذا متم} بإسقاط {إنكم} الأولى.
وقرأ الجمهور {هيهات هيهات} بفتح التاءين وهي لغة الحجاز، وقرأ هارون عن أبي عمرو بفتحهما منونتين ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس، وقرأ أبو حيوة بضمهما من غير تنوين، وعنه عن الأحمر بالضم والتنوين وافقه أبو السماك في الأول وخالفه في الثاني، وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسرهما من غير تنوين، وروي هذا عن عيسى وهي في تميم وأسد وعنه أيضًا، وعن خالد بن إلياس بكسرهما والتنوين.
وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضًا بإسكانهما، وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعبًا كبيرًا بالحذف والإبدال والتنوين وغيره، وقد ذكرنا في التكميل لشرح التسهيل ما ينيف على أربعين لغة، فالذي اختاره أنها إذا نونت وكسرت أو كسرت ولم تنون لا تكون جمعًا لهيهات، ومذهب سيبويه أنها جمع لهيهات وكان حقها عنده أن تكون {هيهات} إلاّ أن ضعفها لم يقتض إظهار الباء قال سيبويه، هي مثل بيضات يعني في أنها جمع، فظن بعض النحاة أنه أراد في اتفاق المفرد، فقال واحد: هيهات هيهة، وتحرير هذا كله مذكور في علم النحو ولا تستعمل هذه الكلمة غالبًا إلاّ مكررة، وجاءت غير مكررة في قول جرير:
وهيهات خل بالعقيق نواصله

وقول رؤبة:
هيهات من متحرق هيهاؤه

و{هيهات} اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهرًا أو مضمرًا، وهنا جاء التركيب {هيهات هيهات لما توعدون} لم يظهر الفاعل فوجب ن يعتقد إضمار تقديره هو أي إخراجكم، وجاءت اللام للبيان أي أعني لما توعدون كهي بعد بعد سقيًا لك فتتعلق بمحذوف وبنيت المستبعد ما هو بعد اسم الفعل الدال على البعد كما جاءت في {هيت لك} لبيان المهيت به.